الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الداء والدواء المسمى بـ «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» ***
وَالْعَاشِقُ لَهُ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: مَقَامُ ابْتِدَاءٍ، وَمَقَامُ تَوَسُّطٍ، وَمَقَامُ انْتِهَاءٍ. فَأَمَّا مَقَامُ ابْتِدَائِهِ: قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ مُدَافَعَتُهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَعْشُوقِهِ مُتَعَذِّرًا قَدَرًا وَشَرْعًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَأَبَى قَلْبُهُ إِلَّا السَّفَرَ إِلَى مَحْبُوبِهِ -وَهَذَا مَقَامُ التَّوَسُّطِ وَالِانْتِهَاءِ- فَعَلَيْهِ كِتْمَانُهُ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا يُفْشِيَهُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا يَشْمَتَ بِمَحْبُوبِهِ وَيَهْتِكُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَى الْمَعْشُوقِ وَأَهْلِهِ مِنْ ظُلْمِهِ فِي مَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْمَعْشُوقَ بِهَتْكِهِ فِي عِشْقِهِ إِلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ، وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَصَدَّقُ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ، وَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ فَعَلَ بِفُلَانٍ أَوْ بِفُلَانَةَ، كَذَّبَهُ وَاحِدٌ وَصَدَّقَهُ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ. وَخَبَرُ الْعَاشِقِ الْمُتَهَتِّكِ عِنْدَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ يُفِيدُ الْقَطْعَ الْيَقِينِيَّ، بَلْ إِذَا أَخْبَرَهُمُ الْمَفْعُولُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى غَيْرِهِ جَزَمُوا بِصِدْقِهِ جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، بَلْ لَوْ جَمَعَهُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا؛ لَجَزَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ وَعْدٍ وَاتِّفَاقٍ بَيْنَهُمَا، وَجَزْمُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الظُّنُونِ وَالتَّخَيُّلِ وَالشُّبَهِ وَالْأَوْهَامِ وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ، كَجَزْمِهِمْ بِالْحِسِّيَّاتِ الْمُشَاهَدَةِ، وَبِذَلِكَ وَقَعَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الطَّيِّبَةِ الْمُطَيَّبَةِ، حَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الْمُبَرَّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، بِشُبْهَةِ مَجِيءِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ بِهَا وَحْدَهُ خَلْفَ الْعَسْكَرِ حَتَّى هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَلَوْلَا أَنْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَرَاءَتَهَا، وَالذَّبَّ عَنْهَا، وَتَكْذِيبَ قَاذِفِهَا، لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْمُبْتَلَى عِشْقَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاتِّصَالُ بِهِ مِنْ ظُلْمِهِ وَأَذَاهُ مَا هُوَ عُدْوَانٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَرُّضٌ لِتَصْدِيقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ظُنُونَهُمْ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِمَنْ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ، إِمَّا بِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ، تَعَدَّى الظُّلْمُ وَانْتَشَرَ، وَصَارَ ذَلِكَ الْوَاسِطَةُ دَيُّوثًا ظَالِمًا، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ لَعَنَ الرَّائِشَ -وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي إِيصَالِ الرِّشْوَةِ- فَمَا ظَنُّكَ بِالدَّيُّوثِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ فِي الْوَصْلِ، فَيَتَسَاعَدُ الْعَاشِقُ وَالدَّيُّوثُ عَلَى ظُلْمِ الْمَعْشُوقِ وَظُلْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ غَرَضِهِ عَلَى ظُلْمِهِ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ فِيهِ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ يَكُونُ حَيَاتُهَا مَانِعَةً مِنْ غَرَضِهِ، وَكَمْ قَتِيلٍ طُلَّ دَمُهُ بِهَذَا السَّبَبِ، مِنْ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَقَرِيبٍ، وَكَمْ خُبِّبَتِ امْرَأَةٌ عَلَى بَعْلِهَا، وَجَارِيَةٍ وَعَبْدٍ عَلَى سَيِّدِهِمَا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْعَى فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ رَجُلٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِمَا؟ وَعُشَّاقُ الصُّوَرِ وَمُسَاعِدُوهُمْ مِنَ الدَّيَايِثَةِ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا، فَإِنْ طَلَبَ الْعَاشِقُ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ وَمُشَارَكَةَ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمِ ظُلْمِ الْغَيْرِ مَا لَعَلَّهُ لَا يَقْصُرُ عَنْ إِثْمِ الْفَاحِشَةِ، وَإِنْ لَمْ يُرَبَّ عَلَيْهَا، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْغَيْرِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ أَسْقَطَتْ حَقَّ اللَّهِ فَحَقُّ الْعَبْدِ بَاقٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّمِنْ ظُلْمِ الْوَالِدِ إِفْسَادَ وَلَدِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ،وَمَنْ هُوَ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَظُلْمُ الزَّوْجِ بِإِفْسَادِ حَبِيبَتِهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى فِرَاشِهِ - أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِهِ بِأَخْذِ مَالِهِ كُلِّهِ، وَلِهَذَا يُؤْذِيهِ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أَخْذُ مَالِهِ، وَلَا يَعْدِلُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِلَّا سَفْكُ دَمِهِ، فَيَا لَهُ مِنْ ظُلْمٍ أَعْظَمَ إِثْمًا مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وُقِفَ لَهُ الْجَانِي الْفَاعِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ لَهُ: خُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ»، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَمَا ظَنُّكُمْ؟ أَيْ: فَمَا تَظُنُّونَ يَبْقَى لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ؟ فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَظْلُومُ جَارًا، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، تَعَدَّدَ الظُّلْمُ فَصَارَ ظُلْمًا مُؤَكَّدًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَإِيذَاءِ الْجَارِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ، وَلَا مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. فَإِنِ اسْتَعَانَ الْعَاشِقُ عَلَى وِصَالِ مَعْشُوقِهِ بِشَيَاطِينِ الْجِنِّ-إِمَّا بِسِحْرٍ أَوِ اسْتِخْدَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ- ضُمَّ إِلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ كُفْرُ السِّحْرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ، كَانَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ غَيْرَ كَارِهٍ لِحُصُولِ مَقْصِدِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنَ الْكُفْرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَاوُنَ فِي هَذَا الْبَابِ، تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِحُصُولِ غَرَضِ الْعَاشِقِ مِنَ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ الْمُتَعَدِّي ضَرَرُهُ فَأَمْرٌ لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنَ الْمَعْشُوقِ، فَلِلْمَعْشُوقِ أَغْرَاضٌ أُخَرُ يُرِيدُ مِنَ الْعَاشِقِ إِعَانَتَهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَجِدُ مِنْ إِعَانَتِهِ بُدًّا، فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَالْمَعْشُوقُ يُعِينُ الْعَاشِقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَسَيِّدِهِ وَزَوْجِهِ، وَالْعَاشِقُ يُعِينُ الْمَعْشُوقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَكُونُ غَرَضُ الْمَعْشُوقِ مُتَوَقِّفًا عَلَى ظُلْمِهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى أَغْرَاضِهِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ النَّاسِ، فَيَحْصُلُ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقُبْحِ لِتَعَاوُنِهِمَا بِذَلِكَ عَلَى الظُّلْمِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ الْعُشَّاقِ وَالْمَعْشُوقِينَ، مِنْ إِعَانَةِ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ عَلَى مَا فِيهِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ وَبَغْيٌ، حَتَّى رُبَّمَا يَسْعَى لَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِمَثَلِهِ، وَفِي تَحْصِيلِ مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَفِي اسْتِطَالَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا اخْتَصَمَ مَعْشُوقُهُ وَغَيْرُهُ أَوْ تَشَاكَيَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمَعْشُوقِ ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا، هَذَا إِلَى مَا يَنْضَمُّ إِلَى ذَاكَ مِنْ ظُلْمِ الْعَاشِقِ لِلنَّاسِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى مَعْشُوقِهِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْشُوقِهِ. فَكُلُّ هَذِهِ الْآفَاتِ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا تَنْشَأُ مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ تَنَصَّرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ نَشَئُوا فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْعِشْقِ، كَمَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُؤَذِّنِينَ حِينَ أَبْصَرَ امْرَأَةً جَمِيلَةً عَلَى سَطْحٍ، فَفُتِنَ بِهَا، وَنَزَلَ، وَدَخَلَ عَلَيْهَا، وَسَأَلَهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ، فَإِنْ دَخَلْتَ فِي دِينِي تَزَوَّجْتُ بِكَ، فَفَعَلَ، فَرَقِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى دَرَجَةٍ عِنْدَهُمْ فَسَقَطَ مِنْهَا فَمَاتَ، ذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِ الْعَاقِبَةِ لَهُ. وَإِذَا أَرَادَ النَّصَارَى أَنْ يُنَصِّرُوا الْأَسِيرَ، أَرَوْهُ امْرَأَةً جَمِيلَةً وَأَمَرُوهَا أَنْ تُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهَا حَتَّى إِذَا تَمَكَّنَ حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ، بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا إِنْ دَخَلَ فِي دِينِهَا، فَهُنَالِكَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 27]. وَفِي الْعِشْقِ مِنْ ظُلْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ لِصَاحِبِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَا فِيهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبِهِ، وَظُلْمُهُمَا مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ظُلْمُهُمَا بِالشِّرْكِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعِشْقُ أَنْوَاعَ الظُّلْمِ كُلَّهَا. وَالْمَعْشُوقُ إِذَا لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْعَاشِقَ لِلتَّلَفِ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُ، بِأَنْ يُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَتَزَيَّنَ لَهُ وَيَسْتَمِيلَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ مَالَهُ وَنَفْعَهُ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لِئَلَّا يَزُولَ غَرَضُهُ بِقَضَاءِ وَطَرِهِ مِنْهُ، فَهُوَ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَالْعَاشِقُ رُبَّمَا قَتَلَ مَعْشُوقَهُ لِيَشْفِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَادَ بِالْوِصَالِ لِغَيْرِهِ، فَكَمْ لِلْعِشْقِ مِنْ قَتِيلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَكَمْ أَزَالَ مِنْ نِعْمَةٍ، وَأَفْقَرَ مِنْ غِنًى، وَأَسْقَطَ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَشَتَّتَ مِنْ شَمْلٍ، وَكَمْ أَفْسَدَ مِنْ أَهْلٍ لِلرَّجُلِ وَوَلَدِهِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ بَعْلَهَا عَاشِقًا لِغَيْرِهَا اتَّخَذَتْ هِيَ مَعْشُوقًا لِنَفْسِهَا، فَيَصِيرُ الرَّجُلُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ خَرَابِ بَيْتِهِ بِالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْقِيَادَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا. فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُحَكِّمَ عَلَى نَفْسِهِ عِشْقَ الصُّوَرِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ بَعْضِهَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ بِنَفَسِهِ الْمُغَرِّرُ بِهَا، فَإِذَا هَلَكَتْ فَهُوَ الَّذِي أَهْلَكَهَا، فَلَوْلَا تَكْرَارُهُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ مَعْشُوقِهِ وَطَمَعُهُ فِي وِصَالِهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ عِشْقُهُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ أَسْبَابِ الْعِشْقِ الِاسْتِحْسَانُ سَوَاءٌ تَوَلَّدَ عَنْ نَظَرٍ أَوْ سَمَاعٍ، فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ طَمَعٌ فِي الْوِصَالِ وَقَارَنَهُ الْإِيَاسُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ الْعِشْقُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الطَّمَعُ فَصَرَفَهُ عَنْ فِكْرِهِ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِهِ؛لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَطَالَ مَعَ ذَلِكَ الْفِكْرَ فِي مَحَاسِنِ الْمَعْشُوقِ وَقَارَنَهُ خَوْفُ مَا هُوَ أَكْبَرُ عِنْدَهُ مِنْ لَذَّةِ وِصَالِهِ، إِمَّا خَوْفٌ دِينِيٌّ كَدُخُولِ النَّارِ، وَغَضَبِ الْجَبَّارِ، وَاحْتِقَابِ الْأَوْزَارِ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى ذَلِكَ الطَّمَعِ وَالْفِكْرِ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ، فَإِنْ فَاتَهُ هَذَا الْخَوْفُ فَقَارَنَهُ خَوْفٌ دُنْيَوِيٌّ كَخَوْفِ إِتْلَافِ نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ ذَهَابِ جَاهِهِ وَسُقُوطِ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ لِدَاعِي الْعِشْقِ دَفَعَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ مِنْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ، وَقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ؛ انْدَفَعَ عَنْهُ الْعِشْقُ، فَإِنِ انْتَفَى ذَلِكَ كُلُّهُ، وَغَلَبَتْ مَحَبَّةُ الْمَعْشُوقِ لِذَلِكَ، انْجَذَبَ إِلَيْهِ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَالَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ كُلَّ الْمَيْلِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ آفَاتِ الْعِشْقِ وَمَضَارَّهُ وَمَفَاسِدَهُ، فَهَلَّا ذَكَرْتُمْ مَنَافِعَهُ وَفَوَائِدَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: رِقَّةُ الطَّبْعِ، وَتَرْوِيحُ النَّفْسِ وَخِفَّتُهَا، وَزَوَالُ ثِقَلِهَا وَرِيَاضَتُهَا، وَحَمْلُهَا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَالْكَرَمِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَرِقَّةِ الْحَاشِيَةِ، وَلُطْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ: إِنَّ ابْنَكَ قَدْ عَشِقَ فُلَانَةً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَيَّرَهُ إِلَى طَبْعِ الْآدَمِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِشْقُ دَوَاءُ أَفْئِدَةِ الْكِرَامِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعِشْقُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِذِي مُرُوءَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَخَلِيقَةٍ طَاهِرَةٍ، أَوْ لِذِي لِسَانٍ فَاضِلٍ، وَإِحْسَانٍ كَامِلٍ، أَوْ لِذِي أَدَبٍ بَارِعٍ، وَحَسَبٍ نَاصِعٍ. وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ يُشَجِّعُ جَنَانَ الْجَبَانِ، وَيُصَفِّي ذِهْنَ الْغَبِيِّ، وَيُسَخِّي كَفَّ الْبَخِيلِ، وَيُذِلُّ عِزَّةَ الْمُلُوكِ، وَيُسَكِّنُ نَوَافِرَ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ أَنِيسُ مَنْ لَا أَنِيسَ لَهُ، وَجَلِيسُ مَنْ لَا جَلِيسَ لَهُ. وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ يُزِيلُ الْأَثْقَالَ، وَيُلَطِّفُ الرُّوحَ، وَيُصَفِّي كَدَرَ الْقَلْبِ، وَيُوجِبُ الِارْتِيَاحَ لِأَفْعَالِ الْكِرَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سَيَهْلِكُ فِي الدُّنْيَا شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ *** إِذَا غَالَهُ مِنْ حَادِثِ الْحُبِّ غَائِلُهُ كَرِيمٌ يُمِيتُ السِّرَّ حَتَّى كَأَنَّهُ *** إِذَا اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ حَدِيثِكَ جَاهِلُهُ يَوَدُّ بِأَنْ يُمْسِيَ سَقِيمًا لَعَلَّهَا *** إِذَا سَمِعَتْ عَنْهُ بِشَكْوَى تُرَاسِلُهُ وَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ فِي طَلَبِ الْعُلَا *** لِتُحْمَدَ يَوْمًا عِنْدَ لَيْلَى شَمَائِلُهُ فَالْعِشْقُ يَحْمِلُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعِشْقُ يُرَوِّضُ النَّفْسَ، وَيُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ، وَإِظْهَارُهُ طَبِيعِيٌّ، وَإِضْمَارُهُ تَكْلِيفِيٌّ. وَقَالَ الْآخَرُ: مَنْ لَمْ يُهَيِّجْ نَفْسَهُ بِالصَّوْتِ الشَّجِيِّ، وَالْوَجْهِ الْبَهِيِّ، فَهُوَ فَاسِدُ الْمِزَاجِ، يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى *** فَمَا لَكَ فِي طِيبِ الْحَيَاةِ نَصِيبُ وَقَالَ آخَرُ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى *** فَأَنْتَ وَعِيرٌ فِي الْفَلَاةِ سَوَاءُ وَقَالَ آخَرُ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى *** فَقُمْ فَاعْتَلِفْ تِبْنًا فَأَنْتَ حِمَارُ وَقَالَ بَعْضُ الْعُشَّاقِ أُولُو الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ: عِفُّوا تَشْرُفُوا، وَاعْشَقُوا تَظْفَرُوا. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُشَّاقِ: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ لَوْ ظَفِرْتَ بِمَنْ تَهْوَى؟ فَقَالَ: كُنْتُ أُمَتِّعُ طَرْفِي بِوَجْهِهِ، وَأُرَوِّحُ قَلْبِي بِذِكْرِهِ وَحَدِيثِهِ، وَأَسْتُرُ مِنْهُ مَا لَا يُحِبُّ كَشْفَهُ، وَلَا أَصِيرُ بِقَبِيحِ الْفِعْلِ إِلَى مَا يَنْقُضُ عَهْدَهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ: أَخْلُو بِهِ فَأَعِفُّ عَنْهُ تَكَرُّمًا *** خَوْفَ الدِّيَانَةِ لَسْتُ مِنْ عُشَّاقِهِ كَالْمَاءِ فِي يَدِ صَائِمٍ يَلْتَذُّهُ *** ظَمَأً فَيَصْبِرُ عَنْ لَذِيذِ مَذَاقِهِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَرْوَاحُ الْعُشَّاقِ عَطِرَةٌ لَطِيفَةٌ، وَأَبْدَانُهُمْ رَقِيقَةٌ خَفِيفَةٌ، نُزْهَتُهُمُ الْمُؤَانَسَةُ، وَكَلَامُهُمْ يُحْيِي مَوَاتَ الْقُلُوبِ، وَيَزِيدُ فِي الْعُقُولِ، وَلَوْلَا الْعِشْقُ وَالْهَوَى لَبَطَلَ نَعِيمُ الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ لِلْأَرْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْأَبْدَانِ، إِنْ تَرَكْتَهُ ضَرَّكَ، وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهُ قَتَلَكَ، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ: خَلِيلَيَّ إِنَّ الْحُبَّ فِيهِ لَذَاذَةٌ *** وَفِيهِ شَقَاءٌ دَائِمٌ وَكُرُوبُ عَلَى ذَاكَ مَا عَيْشٌ يَطِيبُ بِغَيْرِهِ *** وَلَا عَيْشَ إِلَّا بِالْحَبِيبِ يَطِيبُ وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَةٍ *** وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيبُ وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ قَالَ: [مَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِجَارِيَةٍ وَهِيَ تَقُولُ: وَهَوَيْتُهُ مِنْ قَبْلِ قَطْعِ تَمَائِمِي *** مُتَمَايِلًا مِثْلَ الْقَضِيبِ النَّاعِمِ سَأَلَهَا: أَحُرَّةٌ أَنْتِ أَمْ مَمْلُوكَةٌ؟ قَالَتْ: بَلْ مَمْلُوكَةٌ، فَقَالَ: مَنْ هَوَاكِ؟ فَتَلَكَّأَتْ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: وَأَنَا الَّتِي لَعِبَ الْهَوَى بِفُؤَادِهَا *** قُتِلَتْ بِحُبِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ فَاشْتَرَاهَا مِنْ مَوْلَاهَا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ وَاللَّهِ فَتَنَّ الرِّجَالَ، وَكَمْ وَاللَّهِ مَاتَ بِهِنَّ كَرِيمٌ، وَعَطِبَ بِهِنَّ سَلِيمٌ]. وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- تَسْتَعْدِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهَا عُثْمَانُ: مَا قِصَّتُكِ؟ فَقَالَتْ: كَلِفْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِابْنِ أَخِيهِ، فَمَا أَنْفَكُّ أُرَاعِيهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِمَّا أَنْ تَهَبَهَا إِلَى ابْنِ أَخِيكَ، أَوْ أُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: أُشْهِدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا لَهُ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ فَسَادَ الْعِشْقِ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ بِالْمَعْشُوقِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْعِشْقِ الْعَفِيفِ مِنَ الرَّجُلِ الظَّرِيفِ، الَّذِي يَأْبَى لَهُ دِينُهُ وَعِفَّتُهُ وَمُرُوءَتُهُ أَنْ يُفْسِدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْشُوقِهِ بِالْحَرَامِ، وَهَذَا عِشْقُ السَّلَفِ الْكِرَامِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، فَهَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، عَشِقَ حَتَّى اشْتُهِرَ أَمْرُهُ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَعَدَّ ظَالِمًا مَنْ لَامَهُ، وَمِنْ شِعْرِهِ: كَتَمْتَ الْهَوَى حَتَّى أَضَرَّ بِكَ الْكَتْمُ *** وَلَامَكَ أَقْوَامٌ وَلَوْمُهُمْ ظُلْمُ فَنَمَّ عَلَيْكَ الْكَاشِحُونَ، وَقَبْلَهُمْ *** عَلَيْكَ الْهَوَى قَدْ نَمَّ لَوْ يَنْفَعُ الْكَتْمُ فَأَصْبَحْتَ كَالْهِنْدِيِّ إِذْ مَاتَ حَسْرَةً *** عَلَى إِثْرِ هِنْدٍ أَوْ كَمَنْ شَفَّهُ سُقْمُ تَجَنَّبْتَ إِتْيَانَ الْحَبِيبِ تَأَثُّمًا *** أَلَا إِنَّ هُجْرَانَ الْحَبِيبِ هُوَ الْإِثْمُ فَذُقْ هَجْرَهَا قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ *** رَشَادٌ أَلَا يَا رُبَّمَا كَذَبَ الزَّعْمُ وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِشْقُهُ مَشْهُورٌ لِجَارِيَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَتْ جَارِيَةً بَارِعَةَ الْجَمَالِ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا، وَكَانَ يَطْلُبُهَا مِنِ امْرَأَتِهِ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ تَهَبَهَا لَهُ، فَتَأْبَى، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ، أَمَرَتْ فَاطِمَةُ بِالْجَارِيَةِ فَأُصْلِحَتْ، وَكَانَتْ مَثَلًا فِي حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ كُنْتَ مُعْجَبًا بِجَارِيَتِي فُلَانَةَ، وَسَأَلْتَهَا، فَأَبَيْتُ عَلَيْكَ، وَالْآنَ قَدْ طَابَتْ نَفْسِي لَكَ بِهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ؛ اسْتَبَانَ الْفَرَحُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ عَجِّلِي عَلَيَّ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهَا عَلَيْهِ، ازْدَادَ بِهَا عَجَبًا، وَقَالَ لَهَا: أَلْقِي ثِيَابَكِ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: عَلَى رِسْلِكِ، أَخْبِرِينِي لِمَنْ كُنْتِ؟ وَمِنْ أَيْنَ صِرْتِ لِفَاطِمَةَ؟ فَقَالَتْ: أَغْرَمَ الْحَجَّاجُ عَامِلًا لَهُ بِالْكُوفَةِ مَالًا، وَكُنْتُ فِي رَقِيقِ ذَلِكَ الْعَامِلِ، قَالَتْ: فَأَخَذَنِي وَبَعَثَ بِي إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَوَهَبَنِي لِفَاطِمَةَ، قَالَ: وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْعَامِلُ؟ قَالَتْ: هَلَكَ، قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ وَلَدًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَالُهُمْ؟ قَالَتْ: سَيِّئَةٌ، فَقَالَ: شُدِّي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ، وَاذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْعِرَاقِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ عَلَى الْبَرِيدِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ لَهُ: ارْفَعْ إِلَيَّ جَمِيعَ مَا أَغْرَمَهُ الْحَجَّاجُ لِأَبِيكَ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ شَيْئًا إِلَّا دَفَعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْجَارِيَةِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَإِيَّاهَا، فَلَعَلَّ أَبَاكَ قَدْ أَلَمَّ بِهَا، فَقَالَ الْغُلَامُ: هِيَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا، قَالَ: فَابْتَعْهَا مِنِّي، قَالَ: لَسْتُ إِذًا مِمَّنْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَلَمَّا عَزَمَ الْفَتَى عَلَى الِانْصِرَافِ بِهَا، قَالَتْ: أَيْنَ وَجْدُكَ بِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: عَلَى حَالِهِ، وَلَقَدْ زَادَ، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ، حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهَذَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ: مِنَ الْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْأَدَبِ، وَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْفِقْهِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، وَعَشِقُهُ مَشْهُورٌ. قَالَ نِفْطَوَيْهِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: حُبُّ مَنْ تَعْلَمُ أَوْرَثَنِي مَا تَرَى، فَقُلْتُ: وَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ الْمُبَاحُ، وَالْآخَرُ: اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ، فَأَمَّا النَّظَرُ الْمُبَاحُ فَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَنِي مَا تَرَى، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ فَيَمْنَعُنِي مِنْهَا مَا حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّابِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَرْفَعُهُ: مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ». ثُمَّ أَنْشَدَ: انْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي مِنْ لَوَاحِظِهِ *** وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي وَانْظُرْ إِلَى شَعَرَاتٍ فَوْقَ عَارِضِهِ *** كَأَنَّهُنَّ نِمَالٌ دَبَّ فِي عَاجِ ثُمَّ أَنْشَدَ: مَا لَهُمْ أَنْكَرُوا سَوَادًا بِخَدَّيْهِ *** وَلَا يُنْكِرُونَ وَرْدَ الْغُصُونِ؟ إِنْ يَكُنْ عَيْبُ خَدِّهِ بَرْدُ الشَّعْرِ *** فَعَيْبُ الْعُيُونِ شَعْرُ الْجُفُونِ فَقُلْتُ لَهُ: نَفَيْتَ الْقِيَاسَ فِي الْفِقْهِ، وَأَثْبَتَّهُ فِي الشَّرِّ؟ فَقَالَ: غَلَبَةُ الْوَجْدِ وَمَلَكَةُ النَّفْسِ دَعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَبِسَبَبِ مَعْشُوقِهِ صَنَّفَ كِتَابَ الزَّهْرَةِ. وَمِنْ كَلَامِهِ فِيهِ: "مَنْ يَئِسَ مِمَّنْ يَهْوَاهُ، وَلَمْ يَمُتْ مِنْ وَقْتِهِ سَلَاهُ، وَذَلِكَ أَوَّلُ رَوْعَاتِ الْيَأْسِ تَأْتِي الْقَلْبَ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لَهَا، فَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتَأْتِي الْقَلْبَ وَقَدْ وَطَّأَتْهُ لَهَا الرَّوْعَةُ الْأُولَى". وَالْتَقَى هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، فَتَنَاظَرَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْإِيلَاءِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ: مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ؛ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ، أَحَذَقُ مِنْكَ بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ: أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتَيَّ *** وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقَلِ الْهَوَى مَا لَوْ أَنَّهُ *** يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجَمِ خَاطِرِي *** فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ *** فَلَسْتُ أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمًا فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ؟ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: وَمَطَاعِمُهُ كَالشَّهْدِ فِي نَغَمَاتِهِ *** قَدْ بِتَّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ بِصَبَابَةٍ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ *** وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ عَنْ وَجَنَاتِهِ حَتَّى إِذَا مَا الصُّبْحُ رَاحَ عَمُودُهُ *** وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاءَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُكَ فِي قَوْلِكَ: أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي *** وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا فَضَحِكَ الْوَزِيرُ، وَقَالَ: لَقَدْ جَمَعْتُمَا لُطْفًا وَظُرْفًا، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ. وَجَاءَتْهُ يَوْمًا فُتْيَا مَضْمُونُهَا: يَا ابْنَ دَاوُدَ يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ *** أَفْتِنَا فِي قَوَاتِلِ الْأَحْدَاقِ هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحِ *** أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ فَكَتَبَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ: عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ *** فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ لَمَّا سَأَلْتَ عَنِ الْهَوَى هَيَّجْتَنِي *** وَأَرَقْتَ دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ إِنْ كَانَ مَعْشُوقًا يُعَذِّبُ عَاشِقًا *** كَانَ الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ: "مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ"، شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ صَاحِبُ كِتَابِ الْإِنْشَاءِ: وَقُلْتُ فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى قَافِيَتِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ: قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلًا عَنْ لِحَاظٍ *** هُنَّ يَلْعَبْنَ فِي دَمِ الْعُشَّاقِ مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الْوَرَى مِنْ جُنَاحٍ *** إِنْ ثَنَى الْحَدَّ عَنْ دَمٍ مُهْرَاقِ وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ تَصْـ *** فَحَ عَمَّا جَنَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ إِنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ *** وَلِهَذَا يَفْنَى ضَنًى وَهْوَ بَاقٍ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فَتْوَى وَرَدَتْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْخَطَّابِ مَحْفُوظِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَوْذَانِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ فِي وَقْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ: مَسْأَلَةٌ *** جَاءَتْ إِلَيْكَ وَمَا خُلِقَ سِوَاكَ لَهَا مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ *** لَاحَتْ لِخَاطِرِهِ ذَاتُ الْجَمَالِ لَهَا فَأَجَابَهُ تَحْتَ السُّؤَالِ: قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ *** سَرَّتْ فُؤَادِي لَمَّا أَنْ أَصَخْتُ لَهَا إِنَّ الَّتِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ *** خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا إِنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ *** فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ: حَجَجْتُ سَنَةً، ثُمَّ دَخَلْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، إِذْ سَمِعْتُ أَنِينًا فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: أَشْجَاكَ نَوْحُ حَمَائِمِ السِّدْرِ *** فَأَهَجْنَ مِنْكَ بَلَابِلَ الصَّدْرِ أَمْ عَزَّ نَوْمَكَ ذِكْرُ غَانِيَةٍ *** أَهَدَتْ إِلَيْكَ وَسَاوِسَ الْفِكْرِ يَا لَيْلَةً طَالَتْ عَلَى دَنِفٍ *** يَشْكُو السُّهَادَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ أَسَلَّمْتَ مَنْ تَهْوَى لِحَرِّ جَوًى *** مُتَوَقِّدٍ كَتَوَقُّدِ الْجَمْرِ فَالْبَدْرُ يَشْهَدُ أَنَّنِي كَلِفٌ *** مُغْرًى بِحُبِّ شَبِيهَةِ الْبَدْرِ مَا كُنْتُ أَحْسَبُنِي أَهِيمُ بِحُبِّهَا *** حَتَّى بُلِيتُ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي ثُمَّ انْقَطَعَ الصَّوْتُ، فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ، وَإِذَا بِهِ قَدْ عَادَ الْبُكَاءُ وَالْأَنِينُ، ثُمَّ أَنْشَدَ: أَشْجَاكَ مِنْ رَيَّا خَيَالٌ زَائِرٌ *** وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ الذَّوَائِبِ عَاكِرُ وَاغْتَالَ مُهْجَتَكَ الْهَوَى بِرَسِيسَةٍ *** وَاهْتَاجَ مُقْلَتَكَ الْخَيَالُ الزَّائِرُ نَادَيْتَ رَيًّا وَالظَّلَامُ كَأَنَّهُ *** يَمٌّ تَلَاطَمَ فِيهِ مَوْجٌ زَاخِرُ وَالْبَدْرُ يَسْرِي فِي السَّمَاءِ كَأَنَّهُ *** مَلِكٌ تَرَجَّلَ وَالنُّجُومُ عَسَاكِرُ وَتَرَى بِهِ الْجَوْزَاءَ تَرْقُصُ فِي الدُّجَى *** رَقْصَ الْحَبِيبِ عَلَاهُ سُكْرٌ ظَاهِرُ يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مُحِبٍّ مَا لَهُ *** إِلَّا الصَّبَاحَ مُسَاعِدٌ وَمُؤَازِرُ فَأَجَابَنِي مُتْ حَتْفَ أَنْفِكَ وَاعْلَمَنْ *** أَنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ الْحَاضِرُ قَالَ: وَكُنْتُ ذَهَبْتُ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِالْأَبْيَاتِ فَلَمْ يَتَنَبَّهْ إِلَّا وَأَنَا عِنْدُهُ، فَرَأَيْتُ شَابًّا مُقْتَبِلًا شَبَابُهُ قَدْ خَرَقَ الدَّمْعُ فِي خَدِّهِ خَرْقَيْنِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ كُنْتُ جَالِسًا فِي الرَّوْضَةِ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا صَوْتُكَ، فَبِنَفْسِي أَفْدِيكَ فَمَا الَّذِي تَجِدُهُ؟ فَقَالَ أَنَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، غَدَوْتُ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ اعْتَزَلْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا بِنِسْوَةٍ قَدْ أَقْبَلْنَ يَتَهَادَيْنَ مِثْلَ الْقَطَا، وَإِذَا فِي وَسَطِهِنَّ جَارِيَةٌ بَدِيعَةُ الْجَمَالِ، كَامِلَةُ الْمَلَاحَةِ، فَوَقَفَتْ عَلَيَّ، فَقَالَتْ: يَا عُتْبَةُ، مَا تَقُولُ فِي وَصْلِ مَنْ يَطْلُبُ وَصْلَكَ؟ ثُمَّ تَرَكَتْنِي وَذَهَبَتْ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا خَبَرًا، وَلَا قَفَوْتُ لَهَا أَثَرًا، وَأَنَا حَيْرَانُ أَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، ثُمَّ صَرَخَ وَأَكَبَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، كَأَنَّمَا صُبِغَتْ وَجَنَتَاهُ بِوَرْسٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ: أَرَاكُمْ بِقَلْبِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ *** فَيَا هَلْ تَرَوْنِي بِالْفُؤَادِ عَلَى بَعْدِي فُؤَادِي وَطَرْفِي يَأْسَفَانِ عَلَيْكُمُ *** وَعِنْدَكُمْ رُوحِي وَذِكْرُكُمْ عِنْدِي وَلَسْتُ أَلَذَّ الْعَيْشَ حَتَّى أَرَاكُمُ *** وَلَوْ كُنْتُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي، تُبْ إِلَى رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ مِنْ ذَنْبِكَ، فَبَيْنَ يَدَيْكَ هَوْلُ الْمَطْلَعِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِسَالٍ حَتَّى يَئُوبَ الْقَارِظَانِ، وَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الصُّبْحُ، فَقُلْتُ: قُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ كُرْبَتَكَ، فَقَالَ: أَرْجُو ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ طَاعَتِكَ، فَذَهَبْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا لَلرِّجَالِ لِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَمَا *** يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبًا مَا إِنْ يَزَالُ غَزَالٌ مِنْهُ يَقْتُلُنِي *** يَأْتِي إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ مُنْتَقِبًا يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّ الْأَجْرَ هِمَّتُهُ *** وَمَا أَتَى طَالِبًا لِلْأَجْرِ مُحْتَسِبًا لَوْ كَانَ يَبْغِي ثَوَابًا مَا أَتَى صَلَفًا *** مُضَمِّخًا بِفَتِيتِ الْمِسْكِ مُخْتَضِبًا ثُمَّ جَلَسْنَا حَتَّى صَلَّيْنَا الظُّهْرَ، فَإِذَا بِالنِّسْوَةِ قَدْ أَقْبَلْنَ وَلَيْسَتِ الْجَارِيَةُ فِيهِنَّ، فَوَقَفْنَ عَلَيْهِ، وَقُلْنَ لَهُ: يَا عُتْبَةُ مَا ظَنُّكَ بِطَالِبَةِ وَصْلِكَ، وَكَاسِفَةِ بَالِكَ؟ قَالَ: وَمَا بَالُهَا، قُلْنَ: أَخَذَهَا أَبُوهَا وَارْتَحَلَ بِهَا إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ، فَسَأَلْتُهُنَّ عَنِ الْجَارِيَةِ، فَقُلْنَ: هِيَ رَيَّا بِنْتُ الْغِطْرِيفِ السُّلَمِيِّ، فَرَفَعَ عُتْبَةُ رَأَسَهُ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ: خَلِيلِيَّ رَيَّا قَدْ أُجِدَّ بِكُوْرِهَا *** وَسَارَتْ إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ غَيْرُهَا خَلِيلِيَّ إِنِّي قَدْ عَشِيتُ مِنَ الْبُكَا *** فَهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقْلَةٌ أَسْتَعِيرُهَا فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ بِمَالٍ جَزِيلٍ أُرِيدُ بِهِ أَهْلَ السَّتْرِ، وَوَاللَّهِ لَأَبْذُلَنَّهُ أَمَامَكَ حَتَّى تَبْلُغَ رِضَاكَ وَفَوْقَ الرِّضَا، فَقُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ الْأَنْصَارِ، فَقُمْنَا وَسِرْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ، فَسَلَّمْتُ، فَأَحْسَنُوا الرَّدَّ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلَأُ، مَا تَقُولُونَ فِي عُتْبَةَ وَأَبِيهِ؟ قَالُوا: مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ رُمِيَ بِدَاهِيَةٍ مِنَ الْهَوَى وَمَا أُرِيدُ مِنْكُمْ إِلَّا الْمُسَاعَدَةَ إِلَى السَّمَاوَةِ، فَقَالُوا: سَمْعًا وَطَاعَةً، فَرَكِبْنَا وَرَكِبَ الْقَوْمُ مَعَنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَنَازِلِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَأُعْلِمَ الْغِطْرِيفُ بِنَا، فَخَرَجَ مُبَادِرًا فَاسْتَقْبَلَنَا، وَقَالَ: حُيِّيتُمْ يَا كِرَامُ، فَقُلْنَا: وَأَنْتَ فَحَيَّاكَ إِنَّا لَكَ أَضْيَافٌ، فَقَالَ: نَزَلْتُمْ أَكْرَمَ مَنْزِلٍ، ثُمَّ نَادَى: يَا مَعْشَرَ الْعَبِيدِ، أَنْزِلُوا الْقَوْمَ، فَفُرِشَتِ الْأَنْطَاعُ وَالنَّمَارِقُ، وَذُبِحَتِ الذَّبَائِحُ، فَقُلْنَا: لَسْنَا بِذَائِقِي طَعَامِكَ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَنَا، فَقَالَ: وَمَا حَاجَتُكُمْ؟ قُلْنَا: نَخْطُبُ عَقِيلَتَكَ الْكَرِيمَةَ لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّتِي تَخْطِبُونَهَا أَمْرُهَا إِلَى نَفْسِهَا، وَأَنَا أَدْخُلُ أُخْبِرُهَا، ثُمَّ دَخَلَ مُغْضَبًا عَلَى ابْنَتِهِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ مَا لِي أَرَى الْغَضَبَ فِي وَجْهِكَ؟، فَقَالَ: قَدْ وَرَدَ الْأَنْصَارُ يَخْطُبُونَكِ مِنِّي، فَقَالَتْ: سَادَاتٌ كِرَامٌ، اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلِمَنِ الْخُطْبَةُ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ عُتْبَةَ هَذَا: إِنَّهُ يَفِي بِمَا وَعَدَ، وَيُدْرِكُ إِذَا قَصَدَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ لَا أُزَوِّجَنَّكِ بِهِ أَبَدًا، وَلَقَدْ نَمَى إِلَيَّ بَعْضُ حَدِيثِكِ مَعَهُ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذْ أَقْسَمْتَ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ لَا يُرَدُّونَ رَدًّا قَبِيحًا، حَسِّنْ لَهُمُ الرَّدَّ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: أَغْلِظْ عَلَيْهِمُ الْمَهْرَ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا يُجِيبُونَ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتِ، فَخَرَجَ مُبَادِرًا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ فَتَاةَ الْحَيِّ قَدْ أَجَابَتْ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، فَمَنِ الْقَائِمُ بِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ: أَنَا، فَقُلْ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: أَلْفُ مِثْقَالٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَمِائَةُ ثَوْبٍ مِنَ الْأَبْرَادِ، وَخَمْسَةُ أَكْرِشَةٍ مِنْ عَنْبَرٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَكَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَهَلْ أَجَبْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَنْفَذْتُ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَوْا بِجَمِيعِ مَا طَلَبَ، ثُمَّ صُنِعَتِ الْوَلِيمَةُ، وَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا فَتَاتَكُمْ وَانْصَرِفُوا مُصَاحِبِينَ، ثُمَّ حَمَلَهَا فِي هَوْدَجٍ، وَجَهَّزَهَا بِثَلَاثِينَ رَاحِلَةً مِنَ الْمَتَاعِ وَالتُّحَفِ، فَوَدَّعْنَاهُ وَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ، خَرَجَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ تُرِيدُ الْغَارَةَ أَحْسَبُهَا مِنْ سُلَيْمٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رِجَالًا، وَجَرَحَ آخَرِينَ، ثُمَّ رَجَعَ وَبِهِ طَعْنَةٌ تَفُورُ دَمًا، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَانْثَنَى بِخَدِّهِ، فَطُرِدَتْ عَنَّا الْخَيْلُ وَقَدْ قَضَى عُتْبَةُ نَحْبَهُ، فَقُلْنَا: وَاعُتْبَتَاهُ، فَسَمِعَتْنَا الْجَارِيَةُ، فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا مِنَ الْبَعِيرِ، وَجَعَلَتْ تَصِيحُ بِحُرْقَةٍ، وَأَنْشَدَتْ: تَصَبَّرْتُ لَا أَنِّي صَبِرْتُ وَإِنَّمَا *** أُعَلِّلُ نَفْسِي أَنَّهَا بِكَ لَاحِقَهْ فَلَوْ أَنْصَفَتْ رُوحِي لَكَانَتْ إِلَى الرَّدَى *** أَمَامَكَ مِنْ دُونِ الْبَرِيَّةِ سَابِقَهْ فَمَا أَحَدٌ بَعْدِي وَبَعْدَكَ مُنْصِفٌ *** خَلِيلًا وَلَا نَفْسٌ لِنَفْسٍ مُوَافِقَهْ ثُمَّ شَهِقَتْ وَقَضَتْ نَحْبَهَا، فَاحْتَفَرْنَا لَهُمَا قَبْرًا وَاحِدًا وَدَفَنَّاهُمَا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَمْتُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الْحِجَازِ وَوَرَدْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ قَبْرَ عُتْبَةَ أَزُورُهُ، فَأَتَيْتُ الْقَبْرَ، فَإِذَا عَلَيْهِ شَجَرَةٌ عَلَيْهَا عَصَائِبُ حُمْرُ وَصُفْرُ، فَقُلْتُ: لِأَرْبَابِ الْمَنْزِلِ مَا يُقَالُ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ قَالُوا: شَجَرَةُ الْعَرُوسَيْنِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ مِنَ الرُّخْصَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلتَّشْدِيدِ إِلَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْحَسَنِ مِنَ الْأَسَانِيدِ، وَهُوَ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: مَنْ عَشِقَ وَعَفَّ، وَكَتَمَ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَرَوَاهُ سُوَيْدٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُعَافَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ قُطْبَةَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَظَرَ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَالَتْ: سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا هَمَّ بِطَلَاقِهَا، قَالَ لَهُ: {اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، فَلَمَّا طَلَّقَهَا، زَوَّجَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، فَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَقَدَ نِكَاحَهَا مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 37]. وَهَذَا دَاوُدُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا كَانَ تَحْتَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، ثُمَّ أَحَبَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ فَتَزَوَّجَهَا وَكَمَّلَ بِهَا الْمِائَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَوَّلُ حُبٍّ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ، حُبُّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، وَكَانَ مَسْرُوقٌ يُسَمِّيهَا حَبِيبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَسْأَلُهَا: أَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُ أَهْلَهُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ فَقَالَتْ: لَا، فَقَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا رَأَى عَائِشَةَ لَا يَتَمَالَكُ عَنْهَا». وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَزُورُ هَاجَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ شَغَفِهِ بِهَا، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا. وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- اشْتَرَى جَارِيَةً رُومِيَّةً، فَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَوَقَعَتْ ذَاتَ يَوْمٍ عَنْ بَغْلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهَا وَيُقَبِّلُهَا، وَكَانَتْ تُكْثِرُ مِنْ أَنْ تَقُولَ: يَا بَطْرُونُ أَنْتَ قَالُونُ، تَعْنِي: يَا مَوْلَايَ أَنْتَ جَيِّدٌ، ثُمَّ إِنَّهَا هَرَبَتْ مِنْهُ، فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا شَدِيدًا، وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي قَالُونَ فَانْصَرَفَتْ *** فَالْيَوْمَ أَعْلَمُ أَنِّي غَيْرُ قَالُونَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَقَدْ أَحَبَّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ كَثِيرٌ، وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأَيْتُ امْرَأَةً فَعَشِقْتُهَا، فَقَالَ: ذَلِكَ مَا لَا تَمْلِكُ. فَالْجَوَابُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْجَائِزِ، وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ، وَلَا بِالْمَدْحِ وَالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنَّمَا يَبِينُ حُكْمُهُ، وَيَنْكَشِفُ أَمْرُهُ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ، وَإِلَّا فَالْعِشْقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ، وَنَحْنُ نَذْكُرُالنَّافِعَ مِنَ الْحُبِّ وَالضَّارِّ، وَالْجَائِزَ وَالْحَرَامَ.
اعْلَمْ أَنَّأَنْفَعَ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْجَبَهَا وَأَعْلَاهَا وَأَجَلَّهَامَحَبَّةُ مَنْ جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَفُطِرَتِ الْخَلِيقَةُ عَلَى تَأْلِيهِهِ، وَبِهَا قَامَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَعَلَيْهَا فُطِرَتِ الْمَخْلُوقَاتُ، وَهِيَ سِرُّ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأَلَّهَ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعَبُّدِ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، وَالْعِبَادَةُ هِيَ: كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ جَمِيعُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَدَعْوَةُ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَفِطْرَتُهُ الَّتِي فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَيْهَا، وَمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُوقِ، وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، فَإِنَّالْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا،فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ الْإِحْسَانُ مِنْهُ؟ وَمَا بِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 53]. وَمَا تَعَرَّفَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصْنُوعَاتِهِ مِنْ كَمَالِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَالْمَحَبَّةُ لَهَا دَاعِيَانِ: الْجَمَالُ، وَالْجَلَالُ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، بَلِ الْجَمَالُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْإِجْلَالُ كُلُّهُ مِنْهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سِوَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 31]. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 54-56]. فَالْوِلَايَةُ أَصْلُهَا الْحُبُّ، فَلَا مُوَالَاةَ إِلَّا بِحُبٍّ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُمْ يُوَالُونَهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ يُوَالِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، بِخِلَافِ مَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهُمْ مِنْ دُونِهِ، بَلْ مُوَالَاتُهُ لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ. وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْمَحَبَّةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 165]. وَأَخْبَرَ عَمَّنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ فِي الْحُبِّ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي النَّارِ لِمَعْبُودِيهِمْ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 97-98]. وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ فِي الْحُبِّ أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَلِأَجْلِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَهْلِهِ، وَالنَّارَ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ فِيهِ. وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ: لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَكُونَ هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ؟ وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَا، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» أَيْ لَا تُؤْمِنُ حَتَّى تَصِلَ مَحَبَّتُكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا أَفَلَيْسَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَوْلَى بِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ مَا مِنْهُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يَدْعُو إِلَى مَحَبَّتِهِ، مِمَّا يُحِبُّ الْعَبْدُ وَيَكْرَهُ -فَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ، وَمُعَافَاتُهُ وَابْتِلَاؤُهُ، وَقَبْضُهُ وَبَسْطُهُ، وَعَدْلُهُ وَفَضْلُهُ، وَإِمَاتَتُهُ وَإِحْيَاؤُهُ، وَلُطْفُهُ وَبِرُّهُ، وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ، وَسَتْرُهُ وَعَفْوُهُ، وَحِلْمُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِ، وَكَشْفُ كَرْبِهِ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ، وَتَفْرِيجُ كُرْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، بَلْ مَعَ غِنَاهُ التَّامِّ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كُلُّ ذَلِكَ دَاعٍ لِلْقُلُوبِ إِلَى تَأْلِيهِهِ وَمَحَبَّتِهِ، بَلْ تَمْكِينُهُ عَبْدَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَإِعَانَتُهُ عَلَيْهَا، وَسَتْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ وَطَرَهُ مِنْهَا، وَكَلَاءَتُهُ وَحِرَاسَتُهُ لَهُ، وَيَقْضِي وَطَرَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، يُعِينُهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهَا بِنِعَمِهِ- مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَى مَحَبَّتِهِ، فَلَوْ أَنَّ مَخْلُوقًا فَعَلَ بِمَخْلُوقٍ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَمْلِكْ قَلْبَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ، فَكَيْفَ لَا يُحِبُّ الْعَبْدُ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ، مَعَ إِسَاءَتِهِ؟ فَخَيْرُهُ إِلَيْهِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُ إِلَيْهِ صَاعِدٌ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، فَلَا إِحْسَانُهُ وَبِرُّهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَيْهِ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَلَا مَعْصِيَةُ الْعَبْدِ وَلُؤْمُهُ يَقْطَعُ إِحْسَانَ رَبِّهِ عَنْهُ. فَأَلْأَمُ اللُّؤْمِ تَخَلُّفُ الْقُلُوبِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَتَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ. وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ تُحِبُّهُ مِنَ الْخَلْقِ أَوْ يُحِبُّكَ إِنَّمَا يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ وَغَرَضِهِ مِنْكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُكَ لَكَ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: [عَبْدِي كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لَكَ]، فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِي الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ رَبُّهُ لَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ، مَشْغُولٌ بِحُبِّ غَيْرِهِ، قَدِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ؟ وَأَيْضًا، فَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ مِنَ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ يَرْبَحْ عَلَيْكَ لَمْ يُعَامِلْكَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبْحِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَامِلُكَ لِتَرْبَحَ أَنْتَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الرِّبْحِ وَأَعْلَاهُ، فَالدِّرْهَمُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ وَهِيَ أَسْرَعُ شَيْءٍ مَحْوًا. وَأَيْضًا هُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَكَ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَنْ أَوْلَى مِنْهُ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَرْضَاتِهِ؟ وَأَيْضًا فَمَطَالِبُكَ -بَلْ مَطَالِبُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا- لَدَيْهِ، وَهُوَ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، أَعْطَى عَبْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ فَوْقَ مَا يُؤَمِّلُهُ، يَشْكُرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ وَيُنَمِّيهِ، وَيَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ وَيَمْحُوهُ، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغَلِّطُهُ كَثْرَةُ الْمَسَائِلِ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، بَلْ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ حَيْثُ لَا يَسْتَحِي الْعَبْدُ مِنْهُ، وَيَسْتُرُهُ حَيْثُ لَا يَسْتُرُ نَفْسَهُ، وَيَرْحَمُهُ حَيْثُ لَا يَرْحَمُ نَفْسُهُ، دَعَاهُ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَيَادِيهِ إِلَى كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَأَبَى، فَأَرْسَلَ رُسُلَهُ فِي طَلَبِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَهُمْ عَهْدَهُ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ نَفْسُهُ، وَقَالَ: مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» كَمَا قِيلَ: أَدْعُوكَ وَلِلْوَصْلِ تَأْبَى، أَبْعَثُ رَسُولِي فِي الطَّلَبِ، أَنْزِلُ إِلَيْكَ بِنَفْسِي، أَلْقَاكَ فِي النَّوْمِ. وَكَيْفَ لَا تُحِبُّ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيُقِيلُ الْعَثَرَاتِ، وَيَغْفِرُ الْخَطِيئَاتِ، وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ، وَيَكْشِفُ الْكُرُبَاتِ، وَيُغِيثُ اللَّهَفَاتِ، وَيُنِيلُ الطَّلَبَاتِ سِوَاهُ؟. فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ شُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ، وَأَحَقُّ مَنْ حُمِدَ، وَأَنْصَرُ مَنْ ابْتُغِيَ، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وَأَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى، وَأَرْحَمُ مَنْ اسْتُرْحِمَ، وَأَكْرَمُ مَنْ قُصِدَ، وَأَعَزُّ مَنِ الْتُجِئَ إِلَيْهِ وَأَكْفَى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ، أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، وَأَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ التَّائِبِ مِنَ الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إِذَا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ ثُمَّ وَجَدَهَا. وَهُوَ الْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفَرْدُ فَلَا نِدَّ لَهُ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَنْ يُطَاعَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَنْ يُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِهِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَبِتَوْفِيقِهِ وَنِعْمَتِهِ أُطِيعَ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ وَيَعْفُو، وَحَقُّهُ أُضِيعَ، فَهُوَ أَقْرَبُ شَهِيدٍ، وَأَجَلُّ حَفِيظٍ، وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ، وَأَعْدَلُ قَائِمٍ بِالْقِسْطِ، حَالَ دُونَ النُّفُوسِ، وَأَخَذَ بِالنَّوَاصِي وَكَتَبَ الْآثَارَ، وَنَسَخَ الْآجَالَ، فَالْقُلُوبُ لَهُ مُفْضِيَةٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَالْغَيْبُ لَدَيْهِ مَكْشُوفٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِلَيْهِ مَلْهُوفٌ، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِنُورِ وَجْهِهِ، وَعَجَزَتِ الْقُلُوبُ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَدَلَّتِ الْفِطَرُ وَالْأَدِلَّةُ كُلُّهَا عَلَى امْتِنَاعِ مِثْلِهِ وَشِبْهِهِ، أَشْرَقَتْ لِنُورِ وَجْهِهِ الظُّلُمَاتُ، وَاسْتَنَارَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَصَلُحَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ: مَا اعْتَاضَ بَاذِلُ حُبِّهِ لِسِوَاهُ مِنْ *** عِوَضٍ وَلَوْ مَلَكَ الْوُجُودَ بِأَسْرِهِ
|